عين كسور – جبل لبنانتموز/يوليو 2025في مشهد نادر يلتقي فيه التاريخ بالذاكرة، عادت وثائق المعلم اللبناني هاني أبو مصلح إلى مسقط رأسه عين كسور في جبل لبنان، بعد مرور نحو مئة عام، لتستقر أخيراً في حضن العائلة التي حافظت على نهج الوالد وانتمائه العروبي والوطني، في تجربة إنسانية قامت بها مؤسسة “هوية” ضمن مشروعها التوثيقي لحفظ الجذور والرواية الفلسطينية.من الأرشيف تبدأ الحكايةفي عام 2022، وقع فريق عمل “هوية” على ملف شخصي محفوظ في الأرشيف الذي يعود لفترة الانتداب البريطاني في فلسطين، يخص المعلم هاني أبو مصلح، الذي تولّى إدارة مدرسة شفا عمرو في فلسطين خلال ثلاث سنوات بدءاً من عام 1923، بعد أن أمضى عاماً سابقاً في التدريس بمدينة القدس.وتُظهر الوثائق أن هاني أبو مصلح لم يكن مجرد تربوي، بل كان ناشطاً سياسياً ومعارضاً لسياسات الانتداب إذ ورد في الوثائق أنه قد تم إنهاء خدماته مع دائرة المعارف لنشاطه السياسي وتحريض طلابه على الإضراب ومقاطعة المدرسة.رحلة البحث والعودة إلى الجذورفي ضوء هذه المعلومات، ومن خلال إشارة الوثائق إلى أن المعلم هاني من مواليد بلدة عين كسور، بادرت المؤسسة إلى البحث عن عائلته، فتواصلت مع بلدية البلدة، دون أن تتلقى رداً في حينه. وبعد ثلاث سنوات، وصلنا رد من البلدية مطلع شهر تموز/يوليو الجاري يفيد بأن هاني أبو مصلح هو أحد أبناء البلدة فعلاً، وأن ابنه الأستاذ غالب أبو مصلح ما زال على قيد الحياة، وقاموا بتزويدنا برقم هاتف زوجته.تم التواصل مع العائلة، وتحدّد موعد للزيارة، فانطلقت رحلة الفريق إلى عين كسور في جبل لبنان، حتى وصلنا إلى منزل الأستاذ غالب، الرجل التسعيني الحيوي، الذي استقبلنا في بيته الجبلي الدافئ، المليء بالرموز الفلسطينية والمواقف الراسخة.غالب أبو مصلح: لبناني انتمى لفلسطين بوعي واختيارالأستاذ غالب أبو مصلح كاتب لبناني تخرّج من كلية الاقتصاد في الجامعة الأميركية في بيروت، حيث عمِل أستاذاً مساعداً في الأبحاث الاقتصادية، ثم الأبحاث السياسية.التحق بمصرف لبنان سنة 1964 كخبير اقتصادي، وعمِل مستشاراً لحاكمه، ومديراً للتفتيش والتطوير، ثم مديراً للإعداد والتدريب.. ومع ذلك فقد كرّس جزءاً كبيراً من حياته في التفاعل مع القضية الفلسطينية، فكانت له تجربة عميقة وغنيّة في دعم المقاومة، وكتب في سياقها، متحدّثاً عن المحطات المختلفة للمواجهة بين لبنان، الأردن، وسوريا. ويُظهر حديثه ترابطاً قوياً بين رؤيته الفكرية وقيم والده، ويؤكد أن انتماءه لفلسطين لم يكن عابراً، بل متجذراً في الوعي والالتزام.سالناه عن والده وأين انتهت به الأمور بعد إنهاء علاقته مع دائرة المعارف في فلسطين، فذكر أن والده الأستاذ هاني أمضى عمره ملاحقاً ومعتقلاً سواء في سجون الانتداب البريطاني في فلسطين أو في سجون الانتداب الفرنسي في لبنان، وذلك بسبب سياسته الوطنية التي تجلت وأخذت مساراً علنياً بعد وعد بلفور.. وأفادنا أن الوالد كان من رفاق الشيخ المجاهد عز الدين القسام، ومن المؤسسين الأوائل لجمعية الشبان المسلمين، ما منحه موقعاً متقدّماً في الحركة الوطنية والإسلامية المبكرة في فلسطين.في لحظة رمزية، سلّمنا الأستاذ غالب نسخة عن وثائق والده، إضافة إلى نسخة من وثيقة سيرته الذاتية، كما قدّمنا له هدية رمزية تمثّلت في خريطة مطرّزة لفلسطين، عربون وفاء لهذا البيت الذي بقي وفياً للقضية.وبدوره، أهدانا الأستاذ غالب كتابه: “هزيمة المنتصرين”، الذي يعبّر فيه عن رؤيته النقدية العميقة للصراعات والمعادلات في المنطقة، من موقع المثقف العارف بتعقيدات الواقع وعمق الانتماء.تجوّلنا معه في الأرض التي يشرف على زراعتها بالأشجار المثمرة بنفسه، وفي البيت حيث الأعمال الخشبية اليدوية واللوحات المعبّرة التي تزيّن الجدران، كلها تشهد على روح ما زالت مشتعلة بالقضية الفلسطينية رغم تقادم السنين.لم يكن اللقاء مجرّد زيارة، بل استعادة لذاكرة منسية. بعد نحو مئة عام، عادت وثائق هاني أبو مصلح إلى بيت العائلة، إلى الأرض التي وُلد عليها، لتُحفظ في حضن ابنه، وتحيا من جديد، لا كأوراق صامتة، بل كجزء من سيرة شعب وتاريخ مقاومة.هذا العمل ليس إلا أحد ملامح ما تقوم به “هوية” من جهد في تتبع الوثائق، وإعادتها إلى أصحابها، وحفظ الرواية الفلسطينية في وجه محاولات التزوير والنسيان.